رصاصة في عيني
تحقيق: محمد غفري
فَقْءُ عينِ الصّحفيّ عمارنة جريمةُ حربٍ لم تحاسبْ عليها إسرائيل
تقصير فلسطينيّ أم الجنديّ الإسرائيليّ فوق القانون؟
يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، توجّه المصّور الصّحفيّ معاذ عمارنة (36 عاماً)، من مخيم الدّهيشة للّاجئين الفلسطينيّين، إلى بلدة صوريف شماليّ الخليل، جنوب الضّفّة الغربيّة؛ لتغطية فعاليّة سلمية ينظمها الأهالي؛ احتجاجاً على مصادرة أراضيهم، لصالح التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
في خضم المواجهات التي اندلعت بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال، أصيب عمارنة برصاصة معدنية في رأسه، أدّت إلى فقْءِ عينه اليسرى، وكسر في الجفن، قبل أن تستقرّ حتى اليوم داخل تجويف العين على جدار الدماغ، وتقلب حياته رأساً على عقب.
"معاذ قبل الإصابة، ليس مثل معاذ بعدها، الرصاصة قلبت حياتي 360 درجة، وكل شيء كنت أخطط وأحلم بالوصول إليه توقف تماماً".
طوال السنوات الأربعة الماضية، اتّخذ معاذ مدفوعاً بجهود رسمية ونقابية مسارين قانونيين في سبيل محاسبة القناص الإسرائيلي مطلق النار عليه، إلا أن هذه الجهود لم تسفر عن أي نتيجة، بل على العكس ارتكبت القوات الإسرائيلية، عشرات الانتهاكات بعدها بحق الصحفيين الفلسطينيين.
في هذا التقرير الاستقصائي، سوف نحاول الكشف -عبر مختصين- عن الأسباب التي أدت إلى إفلات الجندي الإسرائيلي الذي فقأ عين عمارنة من العقاب.
جدير بالذكر، أننا بينما نكتب ونحرر كلمات هذا التحقيق، يقبع معاذ داخل زنزانة في السجون الإسرائيلية، إثر حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها إسرائيل بعد "السابع من أكتوبر"، وبحسب عائلته، هو محروم من أخذ أدويته، ومن وضع عين السيليكون التجميلية، ويتعرض لاعتداءات مستمرة بالضرب، وهو ما يهدد حياته بالخطر.
استهداف متعمد
روى عمارنة لنا تفاصيل اليوم الذي صدم حياته، وقال: قمع القوات الإسرائيلية للأهالي، بدأ في ساعة مبكرة ذلك اليوم، ولم يسمح لهم الجيش بإقامة صلاة الجمعة فوق أراضيهم المهددة بالمصادرة لصالح المستوطنين، ثمّ اندلعت مواجهات مع الشبان، الذين رشقوا الجيش بالحجارة، فرد عليهم بقنابل الغاز المسيل للدموع، والرصاص المعدني والحي. في تلك الأثناء صار موقع الصحفيين وسياراتهم خلف الجنود، بالتزامن مع بدء إغلاق الشبان للطرق الترابية بالحجارة؛ تحسباً من ملاحقة الجنود لهم، ما دفع الصحفيين لإخراج سياراتهم من الموقع.
يتابع عمارنة: "كل صحفي كان يمر من بين الجنود، يسأله الضابط الإسرائيلي عن اسمه، وأين يعمل اليوم، حديث الضابط معنا أثار شكوكنا بأن هناك أمرا ما غير طبيعي، وكنت آخر صحفي أحضر سيارته من وراء الجنود".
"أوقفني الجنود، وحاولوا منعي من المرور، لكنّني أصريت على ذلك، ودار بيننا جدال، ورفضت استخدامي درعا بشرية. في الأثناء، كان قناص إسرائيلي مستلقيا على الأرض، وتحدث مع الضابط بالعبرية ولم أفهم عليهم، فضحك الجنود، وبعدها طلب مني الذهاب، وهنا أصابتني أحاسيس غريبة بأن أمراً غريباً يجري".
هذه الأحاسيس دفعت معاذ لتحذير بقية الصحفيين، والطلب منهم ارتداء كامل زي حماية الصحفيين، علاوة على ذلك، اتخذ -بدوره- ساتراً ترابياً، غطى نصف جسده بعيداً عن المواجهات، وواصل التوثيق بعدسة كاميرته مدة ثلث ساعة، قبل أن يوقف الجيش القمع بشكل غير طبيعي، ما دفع الشبان للاقتراب من القوات بشكل تدريجي، وهنا بدأ الجميع يترقب ما سيجري.
عن لحظة إطلاق النار عليه، قال عمارنة: "حسيت راسي طار من مكانه، ولم استوعب ما يجري، وضعت يدي على وجهي فكان مليئا بالدم، ولم أعرف طبيعة الإصابة، وهل أنا ميت ام على قيد الحياة".
وفق رواية عمارنة، فقد توجه الجنود على الفور ناحيته، وكان من بينهم جندي يحمل كاميرا ويوثق إصابته، وهو ما أظهرته أيضاً بقية عدسات المصورين.
ردة فعل الجنود السريعة، وإصدار الشرطة الإسرائيلية بياناً صحفياً بعدها بلحظات بأن هناك صحفيا أصيب خلال "أحداث شغب"، وأن الشرطة لم تعرف مصدر الإصابة، دفع عمارنة للتأكيد بأن إطلاق النار عليه كان متعمداً من "قناص إسرائيلي"، وأن نسبة الخطأ في هذه الحقيقة هو صفر في المئة".
كان الصحفي رائد الشريف من بين شهود العيان، وهو من صور القناص الإسرائيلي خلال مروره بسيارته من جانبه، أكد لنا بأن استهداف الصحفيين يومها كان متعمداً، ونفى أية مزاعم بشأن إعلان الجيش للمنطقة منطقة عسكرية مغلقة في ذلك الوقت.
استهداف معاذ "جريمة حرب"
أستاذ القانون المشارك في بريطانيا نهاد خنفر، قال: "إن الصحفيين في نظر القانون الدولي ونصوصه المختلفة يعتبرون من المدنيين، ويعاملون بذات الصفة، وبالتالي يتحتم على قوة الاحتلال، تجنيبهم الأضرار الناجمة عن أية مواجهات، بل وحمايتهم، ولم يكتف القانون الدولي، بالتطرق إلى واجب حماية الصحفيين، وعدم الاعتداء عليهم بشكل ضمني، وإنما لجأ إلى النّصّ على ذلك صراحة، وفق نصّ المادّة (79) من البروتوكول الأوّل الإضافي من اتفاقيات جنيف لعام 1949.
كما أكّد خنفر، أن نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، في البند المتعلّق بخصوص الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، يقود إلى أن استهداف الصحفي عمارنة يعتبر من جرائم الحرب، التي تقع ضمن صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية.
إسرائيل ترفض التحقيق وتعفي نفسها
وللمطالبة بحقه، توجه الصحفي عمارنة إلى مكتب محاماة إسرائيلي في مدينة تل أبيب، وعند شرح قصته للمحامي، بدا الأخير متحمساً للقضية، ورد عليه بأنها: "من أسهل القضايا، وفرص نجاحها كبيرة، ولا تأخذ وقتاً"، وأنه سيتوجه بداية بطلب تعويضات، وعند نجاح القضية، تكون بمثابة دليل إدانة للجندي، للانطلاق نحو محاسبته.
توجه عمارنة لتقديم شكوى عند الشرطة الإسرائيلية، وبحسب القانون خلال أقل من 90 يوما من تاريخ الإصابة. غير أنّ الشرطة الإسرائيلية -وبعد فترة- ردت على المحامي أنها قامت بالإجراءات اللازمة، والتحقيق، وأن الإصابة ليست منهم، فرد عليهم المحامي، وطلب محضر التحقيق، الذي قاموا به، فردوا بأن الإصابة كانت في موقع ساحة حرب واشتباكات، ومن يصاب في هذه المواقع، لا حقوق لهم، وهو ما دفع المحامي للانسحاب من القضية.
الشرطة الإسرائيلية أخذت صلاحيات المحكمة
مدير مركز "عدالة" الحقوقي في إسرائيل حسن جبارين، أكد بأن من واجب المحكمة التقرر في الشكوى، وليس الشرطة، فهناك فرق بين شكوى مدنية وجنائية، ففي الشكوى الجنائية تستطيع الشرطة الرد بأنها لن تفتح ملفاً جنائياً، أما تعويض الأضرار فالمحكمة هي من ينظر فيها، وليس الشرطة.
بحسب عمارنة، كان محاميان إسرائيليان في هذه القضية، محامي التعويضات أبلغه بأنه سيقوم بالضغط على الشرطة، لكنه انسحب من القضية بشكل غريب، وأبلغه بأن القضية لن تحقق شيئاً، لكن عمارنة أفاد بأنّ الأمر ليس كذلك: "أظنّ بأنّه مورس عليه ضغط من دولة إسرائيل؛ كي لا يستمر في القضية".
كما أكد عمارنة وجود تقصير في متابعة القضية من قبل المحامي الذي وكلّه، إضافة إلى عدم تقبل هكذا محاكمات من قبل فلسطينيين في المحاكم الإسرائيلية.
وفق المنظمة الحقوقية الإسرائيلية "بتسيلم"، فإن إسرائيل ضمنت لنفسها إعفاءً تامًّا -تقريبًا- من دفع التعويضات عن هذه الأضرار، التي تقع بحق فلسطينيين، ولتتجنّب الدولة دفع تلك المبالغ، بدأت في النصف الثاني من التسعينيّات، بالاجتهاد -على مستويات عدّة- بهدف توسيع الإعفاء من المسؤولية عن الأضرار، التي ألحقتها قوّات الأمن بسكّان المناطق المحتلة، وقد تكثّفت تلك الاجتهادات في أعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية. ومع السنين عدّل الكنيست القانون عدّة مرّات، ووسّع المحاكم بمبادرة، منها: إعفاء الدولة من دفع التعويضات.
لكن "بتسيلم" أكدت بأن دفع التعويضات للضحايا -عن إصابات في أجسادهم أو ممتلكاتهم- ليس منّة من الدولة، وإنّما واجبها الذي تنصّ عليه أحكام القانون الدولي.
كذلك، أكد مدير مؤسسة الحق، شعوان جبارين، بأن رد الشرطة الإسرائيلية، يتنافى -بشكل مطلق- مع قواعد القانون الدولي من جهة، ومسؤولية الدولة من جهة ثانية، لأن هناك مبدأ ثابتا: عندما يكون هناك إلحاق ضرر بالناس، الدولة هي من تتحمل المسؤولية المدنية.
في هذا السياق، قال مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك: إن إسرائيل غير راغبة بمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الفلسطينيين من جنودها والمستوطنين، وتوفر لهم الحماية، وبالتالي، لا يتوقع بأن تكون هناك مساءلة جدية للجندي ضمن المنظومة القانونية الإسرائيلية.
الرئيس طلب التوجه للجنائية الدولية
في الأيام الأولى من الإصابة، هاتف الرئيس محمود عباس الصحفي عمارنة، واطمأن عليه، وتعهد بكامل تكاليف علاجه، وهو ما صار فعلاً، ووعده بالتوجه للجنائية الدولية، كما طلب الرئيس لقاء عمارنة، لدى زيارته السنوية لمدينة بيت لحم خلال أعياد الميلاد، وأوعز للمسؤولين حينها -بحضور عمارنة- بأن عليهم التوجه إلى الجنائية الدولية، فيما يتعلق بالانتهاكات المرتكبة بحق الصحفيين.
لكن السلطة الوطنية لم تتوجه بشكوى رسمية إلى الجنائية الدولية، فيما يتعلق بقضية الصحفي عمارنة، وبحسب وزير العدل الفلسطيني محمد شلالدة، رفعت السلطة 3 ملفات للجنائية الدولية، هي: ملف الأسرى، ملف الاستيطان، ملف حرب 2014 على غزة، بالإضافة إلى العديد من الملفات التي تسمى تكميلية، وكانت ترسلها الخارجية أولاً بأول، لمكتب المدعي العام، وتتعلق بكافة الانتهاكات الإسرائيلية، بما فيها المرتكبة ضد الصحفيين.
مساعد وزير الخارجية للأمم المتحدة، ومنظماتها المتخصصة عمر عوض الله، أكد لنا أن كل الملفات المتعلقة بالجرائم الإسرائيلية، تم تقديمها إلى الجنائية الدولية، بما فيها قضية الاستهداف المتعمد للصحفيين.
لكن كلا المسؤولَيْن: شلالدة وعوض الله، لم يشيرا -بشكل واضح- إلى رفع ملف خاص بقضية الصحفي عمارنة، لأي محكمة دولية.
على صعيد آخر، أعلنت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، أنها -بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين- رفعت قضية للجنائية الدولة، ضد الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين.
سألنا عمارنة: هل يوجد لديك دليل بأنه تم رفع قضية فعلاً؟ فرد: "أخذوا مني إفادة، والتقارير الطبية، ووقعت على توكيل مكتب محاماة في بريطانيا؛ للشروع بالإجراءات، ومنذ ذلك الوقت لم أبلغ بشيء، ولم يحدث أي شيء".
بيرقراطية المحكمة الجنائية الدولية
عضو الهيئة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، عمر نزال قال: إن حالة معاذ كانت صارخة، وتفاصيلها تؤكد بأن هناك استهدافا متعمدا للصحفيين، ولأن هناك شهودا وفيديو موثقا، كانت حالة قوية، من الممكن كسبها، إذا ما توجهوا بها إلى أبعد مدى.
وتابع نزال: إنهم -في النقابة- رفعوا ملف معاذ إلى المحكمة الجنائية الدولية، ضمن مجموعة من الحالات التي فيها إثباتات قوية، لكن موضوع التوجه للجنائية أخذ وقتاً طويلا، استمر مدة عام؛ حتى تم تحضير الملف، بسبب متطلبات المحكمة: وثائق، وفيديوهات، وشهود، وتحقيقات معقدة عملياً.
وبحسب نزال، فإن آخر رد من الجنائية الدولية، كان في شهر أذار/مارس2022، نص على أن المحكمة ستنظر في الشكوى، وهذا هو جوابهم الأخير، بالتالي، منذ 16 شهرا، لم تشعر النقابة بأي إجراء تقوم به الجنائية الدولية.
اتهامات بالتقصير
يقول الصحفي عمارنة، إن السلطة الفلسطينية مقصرة، وفي قضية الصحفيين، لولا الاتحاد الدولي، لما رفعت قضية للجنائية الدولية، فهو من ضغط ودفع النقابة الفلسطينية لتحريك الملف، أما هو -كصاحب قضية- علم بمؤتمر صحفي حول قضيته بأن المدعي العام قبل القضية، من دعوة عامة، ولم يتواصل معه أحد، مضيفاً: "لا يوجد شيء جدي، ولا اهتمام بقضيتي، كثيرون يتحدثون باسمي وهمهم مكاسب شخصية، وليس محاكمة الجندي الذي أفلت من العقاب".
هنا، يتخوف عمارنة بأن تصل القضية -في يوم من الأيام- إلى مرحلة مفصلية، ويتم سحبها، وإسقاطها إلى الأبد.
في سياق الحديث عن التقصير، سألنا وزير العدل: هل قمتم بأي تحقيق، أو كشف عدلي، على إصابة معاذ؟ أجاب: عملنا -وزارة العدل، والطب الشرعي- مختص بإجراء الفحوصات الخارجية، وإجراء تقارير الكشف الظاهري، ويُصدر تقاريره التي تكون مُعتمَدة أمام أي قضاء، لكن لم يقوموا بذلك للصحفي عمارنة، فهم يقومون بذلك بناء على طلب من النيابة العامة، التي تطلب منهم إجراء أي تشريح أو أي فحص؛ لأن النيابة العامة، هي جهة الاختصاص في توثيق الجرائم، والاعتداءات الإسرائيلية كجهة رسمية.
لدى التواصل مع النيابة العامة الفلسطينية، تبين عدم وجود أيّ ملف تحقيق يتعلق بقضية الصحفي عمارنة، وعدم قيامهم بأيّ تحقيق فيما يتعلق بقضيته.
أما عمر نزال من نقابة الصحفيين، فقال: إنهم عاملوا معاذ كحالة استثنائية، من بين مجموع الحالات التي تعرض لها الصحفيون، لكن لا توجد لديهم أي معطيات جديدة، فهم على تواصل دائم مع مكتب المحامين في لندن. وأكد نزال: "لا، لسنا مقصرين، وبالنهاية، هناك احتلال له اليد الطولى علينا -كفلسطينيين- بما فيه الصحفيون، والاحتلال فوق كل القوانين: المحلية والدولية والعالمية، ولا يوجد من يسائله على أي جريمة".
الجنائية الدولية لا تحقق في قضايا الفلسطينيين
حديث نزال بأن الاحتلال فوق كل القوانين الدولية، دفعنا للتساؤل حول مصير الملفات الأخرى، التي رفعت للجنائية الدولية من قبل الفلسطينيين، وإذا أدى ذلك إلى أي نتيجة.
وزير العدل محمد شلالدة، قال: إنه في عهد المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، ثبتت الولاية الجنائية على الأرض الفلسطينية المحتلة، لكن حتى تاريخ اليوم، المدعي العام الحالي كريم خان، لم يتحرك، ولم يفتح أي تحقيق، علماً بأن كل الإثباتات، والأدلة موجودة لديه.
اتهامات للجنائية بازدواجية المعايير
يقول شلالدة: إن المحكمة الجنائية الدولية، جهاز قضائي مستقل، لكن، لوحظ على أرض الواقع، كيف تعاملت مع الأزمة الأوكرانية، وأخذت قرارات سريعة، بالمقابل، كيف تتعامل مع الملفات الفلسطينية ببطء وتأخير، بالتالي، هناك ازدواجية، والقضية الخطيرة: أن يتم تسييس المحكمة؛ لأن هناك ازدواجية في التعامل.
يتفق عمار دويك مع شلالدة، بأن المحكمة الجنائية الدولية، متهمة بأنها مسيسة، وغير مستقلة، خاصة بعدما استلم كريم خان، وواضح بأنه جاء بصفقة مع دول غربية، عنوانها: تحييد وتجميد ملفي فلسطين وأفغانستان، وإعطاء أوليات لملفات أخرى.
وشدد دويك: "لا نريد أن نرفع توقعات الناس كثيراً؛ لأن المحكمة تبقى في إطار القانون الدولي، وهناك سيطرة كبيرة عليه من القوى الدولية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، وهناك أدوات تأثير معقدة، تستخدم ضدها، من بينها: موضوع التمويل، والانتخابات، من انتخاب القضاة، والمدعي العام، وشاهدنا كيف تم انتخاب كريم خان".
أما شعوان جبارين، فقال: إن المحاكم الجنائية الدولية، لم تتابع، ولا تتابع جرائم أكبر، وقعت في غزة، ولليوم، هذه الملفات عالقة أمام المحكمة، ولم تتحرك؛ لأن بالنسبة لها، لم تكن هذه الجرائم أولوية، فنحن هنا نتحدث عن سياسة، وهذا سبب انتقادهم الدائم للمدعي العام.
لكنه، نوه -في الوقت نفسه- إلى أن المحكمة، تنظر إلى بعض الملفات، كظواهر وسياسة، أو ظاهرة معينة، أكثر منها قضية شخصية، مثل قضية معاذ؛ لذا -أحيانا- لا تعطي الاهتمام الكافي، فهم لا يلاحقون كل قضية، بل يأخذون جريمة، أو اثنتين -فقط- من الناحية العملية.
وحول دور السلطة الفلسطينية، في مواجهة هذه الازدواجية، والتسيس من الجنائية الدولية، قال عوض الله: بأنهم يرصدون وجود تسييس، ومعايير مزدوجة، في الجنائية الدولية، ويعملون على منع حصول ذلك، فهو أمر غير مقبول.
وأكد المسؤول في الخارجية الفلسطينية: "بأن هناك تلكؤا، ونحن غير راضين؛ لعدم وجود إنجاز، حتى اليوم، لهذا التحقيق الجنائي؛ لأنه لا توجد حالة في العالم، مثل الحالة الفلسطينية، من ناحية التوثيق والجرائم التي ترتكب".
إذًا، ما حل حصانة الجندي الإسرائيلي من العقاب؟
يؤكد نزال: جل ما قامت به نقابة الصحفيين، هو التوجه لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ورفع ملف الشكوى إلى الجنائية الدولية، غير أنّ هنالك من ينتقد طريقة إدارة الملف بهذه الصورة.
يتفق أستاذ القانون المشارك في بريطانيا ناهد خنفر، مع المتحدثين أعلاه، بوجود ازدواجية معايير واضحة في الجنائية الدولية، وذلك تبعا لطبيعة المعادلات السياسية، الناظمة لآليات تفعيل نصوص، وإجراءات القانون الدولي من عدمه.
لكن خنفر شدد -في الوقت نفسه- على أن الموضوع بحاجة إلى متابعة حثيثة، وتحريك دائم للدعوى أمام المحكمة، وما عملية التأخير إلا مسألة سياسية غير مبررة، ومن الضروري التحرك الدائم، من خلال المحامين المعتمدين دون كلل، حيث إن مثل هذه الجرائم، لا تسقط بالتقادم، كبقية الجرائم الأخر.
يتابع خنفر: هناك محاكم أخر في أوروبا، يمكن أن تأخذ حالة معاذ في حالتين: الأولى- أن يكون معاذ حاملا لجنسية إحدى الدول الـ47، الموقعة على المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تتفرع عنها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إذ تصبح -تلقائيا- مختصة بالنظر في قضيته. أما الحالة الأخرى، فهي إثبات أن الجندي، أو من أعطى الأمر بإطلاق النار على معاذ، حامل لجنسية إحدى الدول المذكورة آنفا.
يرد نزال: بأن الدولة الأهم التي تقبل قضايا في أوروبا هي بريطانيا، وشريكهم الأساس في الدعوى، هو اتحاد الصحفيين في بريطانيا، الذي يتمتع بثقل كبير، ولو كان أي أفق، بأن ينجحوا في القضاء البريطاني لتوجهوا إليه.
يتابع نزال: "نحن حتى لا نشعر أننا مقصرون، توجهنا للجنائية الدولية، لكن، هل نتوقع نتيجة بعد سنة أو سنتين بأن نجد مسؤولاً إسرائيلياً في الجنائية؟ استبعد ذلك ضمن المعطيات الحالية، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية التوجه، وطرق كل الأبواب، والتوثيق -لو للتاريخ- في حال حدث تغيير في المستقبل، بأن تكون لدينا ملفات منذ سنوات".
نزال الذي بدا متشائماً من المنظومة القضائية الدولية، قال: "لا المحاكم الأوروبية تتعاطى، ولا توجد جدوى في المحاكم الدولية، ولا المنظومة الدولية كلها، بما فيها الأمم المتحدة، صاحبة أكثر من قرار ملزم للدول، بالحفاظ على حرية الصحفيين، وتوفير بيئة عمل آمنة لهم، فها هي إسرائيل، فوق القانون الدولي كله، وعليه، لا توجد أداة لدى النقابة، ولا حتى الاتحاد الدولي، تلزم أكثر من هذا"، مؤكداً أن النقابة -أيضاً- لا تتعاطى مع القضاء الإسرائيلي.
عند سؤال الخبير القانوني خنفر عن رأيه، بأن عدم محاسبة الجندي الإسرائيلي، تقصير فلسطيني، أم أن إسرائيل فعلاً فوق القانون، أجاب: "يمكن القول إن كلا الأمرين معا. الحماية السياسية لإسرائيل من قبل الدول الغربية، وإن كان عاملا مؤثرا، في التغطية على ملاحقة إسرائيل على جرائمها، إلا أنه لا يعفي الجهات الفلسطينية، المخولة بالدفاع عن الصحفيين، من المتابعة الدائمة، والحثيثة أمام جهات التقاضي المتاحة".
أحلام تحطمت وأوجاع تزيد
إزاء كل ذلك، وإفلات الجندي من العقاب، واستقرار الرصاصة في رأس معاذ، يقول: إن أوجاعه لا تنتهي، بل تزيد مع الأيام.
في آخر مراجعة قام بها معاذ، إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي في القدس، في شهر أبريل/ نيسان الماضي، حوّله طبيبه إلى دائرة الألم، التي يطلق عليها معاذ "دائرة الإدمان"، حيث تُعطى له نِسَب معينة، من دواء مخدر، وكل فترة ترتفع هذه النسبة، بسبب انتهاء أي أفق للعلاج.
ما يجري الآن، داخل تجويف عين معاذ، توجد كرة تجميلية من السيلكون؛ لملء الفراغ، وهذه الكرة تضغط على الرصاصة، التي لا يمكن إزالتها، ولا إزالة الكرة، أو تصغير حجمها، بالتالي، الأوجاع تزيد، ولا تنتهي. هذه الاوجاع تؤثر على حياته، وعمله وتعامله مع الآخرين. الأمر الأصعب، أن الرصاصة إذا تحركت من موقعها، وأدت لنزع غشاء الدماغ؛ فموته سيكون حتمياً، لا سمح الله.
"كنت أحلم بأن تكون المشاهد التي أوثقها، مؤثرة، وتوصل رسالة للعالم، لكنني تحولت لصورة، ومشهد... عزائي أن صورة إصابتي، كانت مؤثرة، ووصلت لكل العالم، علما بأن الاستهداف لم يكن لمعاذ -كشخص- بل لمعاذ كصحفي، فهي -إذًا- رسالة للصحفيين: بأن هذه الصورة، التي تأخذها، تكلفك حياتك. فالإصابة بالرأس -من قناص- هدفها القتل".