English

الدقعاء (من وحي دورة الكفاءة النحوية وضبط النص)


2015-06-16

عارف حجاوي

(من وحي دورة الكفاءة النحوية وضبط النص)

عن الدورة أولاً، ثم نحدثكم عن الدقعاء: هذه دورة من مئات الدورات التي تعقد في طول بلادنا وعرضها، وإن كان يصعب تحديد أبعاد هذا البلد المنكوب. هي ورشة من آلاف الورش التي نجتمع فيها على نية الخير. ارفع يديك – عزيزي القارئ - معي بالدعاء على الورش المملة، وعلى النظام التعليمي في بلدنا، وعلى الاحتلال طبعاً. 

عن الدورة أولاً: دعا مركز تطوير الإعلام إلى دورة في موضوع النحو والصرف والإملاء والترقيم. والغرض منها تعليم المتدربين قواعد اللغة بغرض تمكينهم من تصحيح ما يعتَوِر النصوص المعاصرة - كالرسائل الرسمية، وكالتقارير الإعلامية التي تنشر في الصحف والمواقع وتذاع في الراديو والتلفزة – من أخطاء نحوية وإملائية وترقيمية. وحضر الدورة خمسة وسبعون فتاة وفتى: أربعة عشر منهم في غزة، وواحد وستون في الضفة. فأما أهل الضفة فقد قضوا أياماً ثلاثة في حل التمرينات النحوية، والاستماع إلى تعقيبات قصيرة عن المزالق المختلفة فيما يتعلق بأوضاع الفواصل والنقط. وأما أهل غزة فقد أرسلت إليهم التمرينات مع حلولها بالإيميل. ثم في ختام اليوم الثالث جلس الجميع في فِلْقتي الوطن لكي يقدموا امتحاناً معيارياً يقيس الكفاءة النحوية وضبط النص. وقد خُير المشاركون بين أن ينالوا شهادة حضور الدورة وينصرفوا إلى بيوتهم سالمين غانمين، وبين أن يجلسوا بعد نيل الشهادة في القاعة المخيفة كي يقدموا الامتحان. واختار الجميع – ما عدا اثنين – أن يجلسوا في القاعة المخيفة. 

وكان امتحان، وكان تصحيح. شيء شبيه بما عرفه كل أولئك المشاركين في مدارسهم وجامعاتهم، غير أنه يختلف بعض الاختلاف. هذا الذي تم تدريسه في الدورة لم يكن النحو التقليدي، والتدريس نفسه لم يكن التدريس التقليدي. ولعل القارئ يريد أن يقِفَني هنا كي يسأل: أليس عقد دورة بخمسة وسبعين مشاركاً أمراً صعباً؟ هو أمر مستغرب حقاً. غير أن ما جعله ميسوراً أن الدورة قامت على فكرة "التفاعل التدريبي". فقد أُقعد كل خمسة أشخاص أو ستة إلى منضدة من المناضد العشر التي في القاعة، وطلب إليهم أن يحلوا التمرينات معاً وأن يتشاوروا في فك طلاسمها. وقضى المدرب – وهو كاتب المقال – وقته وهو يتجول بين المناضد العشر مجيباً على سؤال هنا، ومشيراً إلى مشكلة هناك. وكان أعجب ما تعجب منه المدرب أن المناضد جميعاً كانت منشغلة بالتمرينات انشغالاً صرفها عن موبايلاتها. قد ضاق صدر المدرب لأنه لم يسمع أحاديث جانبية، فكل المشاركين كانوا منشغلين بالنحو والصرف والترقيم والإملاء، وكان المدرب يود لو أنهم خرجوا عن الموضوع بعض خروج، كي يستمتعوا بالصحبة، وكي يتعارفوا أكثر. فهذا شيء لا تحلو الدورات بدونه. لا بل كان كلما طُلب إليهم الانصراف إلى احتساء الشاي والقهوة قاموا عن كراسيهم متثاقلين، ثم عادوا سراعاً لاستكمال حل التمرينات. كانت أشبه شيء باللعبة.. بالمباراة. كانت تلك الدورة لهواً كلها. ألهذا لم يتساقط أحد من الحاضرين؟ ألهذا بدأنا بخمسة وسبعين وانتهينا بخمسة وسبعين؟ ربما لهذا، أي لأن اللعبة كانت شائقة. غير أنني لمست في الجو تعطشاً لإتقان قواعد هذه اللغة، والتخلص من هذه العقدة التي اسمها النحو.    

في نهاية الدورة وزعت شهادات الحضور، ثم كان امتحان، ثم كانت نتائج. والنتائج ستعلن رسمياً بعد يومين. غير أنه يمكن القول – الآن – إن الأداء طيب جداً. ما صنعته الدورة أنها وجهت المشاركين توجيهاً نحو التعامل مع قواعد اللغة تعاملاً وظيفياً، فقد تعاملت مع النحو بوصفه أداة لا حِلية. ودرَّبت الدورة أعينهم وآذانهم على التقاط الأخطاء، دون التعمق في فقه النحو. 

الشهادة الثانية – المرتقبة – في هذه الدورة ليست شهادة عادية. ليست شهادة "حضور". بل هي إجازة. هي إقرار من مركز تطوير الإعلام بجامعة بيرزيت بأن فلاناً الفلانيَّ يمتلك القدرة على أن يجلس في كرسي المدقق اللغوي كي يصحح النصوص ويَشفيها من عللها. هي ليست شهادة بأن صاحبها محرر، ولا بأنه أديب، ولا حتى بأنه صحفي. هي فقط شهادة بأنه مدقق لغوي. لا يخامرنا شك في أن كل من حضر قد استفاد، ولا نشعر بأي تأنيب ضمير لأننا تركنا المشاركين يدرب بعضهم بعضاً وقعدنا نتفرج. فالتعلم لا يكون إلا بالممارسة، وبالتفاعل، واستثارة الرغبة الدفينة. ويشهد الله أننا فوجئنا بالانغماس الشديد لكل المشاركين في عملية تعلم مثالية، لا يشوبها سوى القليل جداً من تدخل المدرب. استفادوا.. نعم. لكن الذين أثبتوا في الامتحان النهائي الكبير أنهم غدوا جاهزين للجلوس في كرسي المدقق اللغوي هم الأقلون طبعاً. هم قلة قليلة. ولا يتوقعنَّ أحد أن تمنح إجازة كهذه إلا لمن سيبيض وجه نفسه أولاً ووجهنا ثانياً. 

ثمة مهارات تقاس بسهولة، ومهارات أخرى تقاس بصعوبة، ومهارات استعصت منذ أزل الإنسانية على القياس. فلم نسمع بامتحان يقيس جودة الشعر، ولا جمال اللوحة. ربما أمكن أن نقيس المهارة في رصف شرائح اللحم على سيخ الشاورما ببعض اليسر. غير أن قياس الكفاءة النحوية وضبط النص أسهل من ذلك. وخطوتنا المقبلة – لكن بعد بضع سنين – هي إعداد مقياس لمفردات اللغة، وآخر للكتابة. فهل ننجح في ذلك؟ إذا نجح الأميركي في وضع التوفل، ونجح الإنجليزي في وضع الآيلتس فلماذا لا ننجح نحن. لكن (الدقعاء) لن تكون جزءاً من امتحاننا المقبل الذي نعدكم بوضعه بعد بضع سنين إن سمح سيد القدر بسنوات أُخَر. 

سألت ذات مرة روائية معروفة عن صديق مشترك يكتب الشعر. قلت لها: ما رأيك في شعره؟ قالت لي: هذا لن يفلح لأنه ملتصق بالتراب، ولا يحلِّق. وقد استطبت إجابتها استطابة جعلتني أتذكرها الآن بعد مرور أربعين سنة. 

الشاعر يمكن أن يحلق بكلمات بسيطة، هو يحلق بخياله، وبروحه. ما علينا! فلنترك موضوع الشعر تركاً، ألم نقل قبل قليل إن قياس الشعر عصي؟ أتريدونني أن أحيلكم إلى مقدمة المرزوقي أو إلى عيار ابن طباطبا؟ حسبكم وحسبي. قد أنفق أهل الشعر العربي ألف سنة وهم يزنون الإبداع الشعري بشتى الموازين، وظل المناط ذوائقهم. 

ليس عن الشعر أتكلم، بل عن اللغة. وليس عن اللغة الأدبية أتكلم، بل عن تلك اللغة التي نستعملها في مقالاتنا، ونحكي بها قصصنا وخواطرنا، ونسجل بها أفكارنا. لغتنا العربية مخلوق جميل بحق: فيها أساليب معبرة، وفيها مفردات معطرة. ثم يفْجَؤك الصحفي بلغة مثل الخشب. لا بأس عليك يا سيدي، اكتب خبرك بلغة خشبية، المهم أن تقص علي تفاصيل الحادث الذي اصطدمت فيه ثلاث سيارات وراح فيه قتيلان. غير أنك تكتب لي أحياناً تقريراً طويلاً عن مهرجان "الرقص المعاصر". وأنا أريد منك في هذا التقرير ألا تكون ملتصقاً بالدقعاء. والدقعاء هي التراب. ألا نقول عن الفقر إنه مدقع؟ ذلك أنه يلصق أهله بالدقعاء أي بالتراب. 

تكتب لي تقريراً عن العواصف التي اجتاحت البلاد في شهر نيسان اجتياحاً غير مسبوق فيما تعيه الذاكرة. فهل تريد أن تجعل تقريرك خشبياً. ألا تريد أن تبدأ تقريرك بالقول: "موظفون كثر لم يداوموا في دوائرهم ومؤسساتهم في رام الله اليوم الخميس 16 نيسان. ليس بسبب سوء الأحوال الجوية والأمطار والعواصف. بل، ببساطة، لأنهم لم يستطيعوا النوم ليلاً. كان قصف الرعود وصوت الرياح الهوجاء شديداً بحيث أخاف الأطفال، وحرم كثيرين من الكبار النوم." مثل هذه البداية تحتاج إلى بعض المفردات المعطرة، التي تعبر عما لقيناه في تلك الليلة الليلاء. وبالمناسبة، فإن يوم الخميس ذاك، الذي تخلف فيه كثيرون من الموظفين عن الدوام بسبب حرمانهم من النوم، كان اليوم الثالث والأخير من أيام دورتنا السالف ذكرها، ولكن جميع المتدربين حضروا، مما يشهد لدورتنا بالنجاح، ويملؤنا فخراً. 

عندما نشرع في وضع أسس معيارية لقياس مفردات اللغة قد نعفي السادة المشاركين من كلمة "الدَّقْعاء"، ولكننا بكل تأكيد سنطلب منهم أن يتقنوا فهم واستعمال كلمات كثيرة لها لون وطعم ورائحة. لا يكفي أن يعرف الصحفي كلمة "معاناة" ومشتقاتها كي يصف لقرائه ومستمعيه ومشاهديه حياتنا اليومية المعقدة. نحن لا نعيش في صحراء منغوليا. نحن نعيش في فلسطين، في بقعة من الأرض تمتلئ حتى لَتفيض بالصراع وبالعواطف والعواصف الهوجاء، وتصطرع فيها المصالح والأهواء. نعيش في قلب العالم. ونحن بحاجة إلى لغة عفيَّة كي نعبر عن واقعنا. نحتاج إلى أن نحلل واقعنا تحليلاً سياسياً واجتماعياً، وأن نغوص في المصالح الدفينة التي تحرك المياه الراكدة في هذا الشرق. داعش تعنينا، وكذا الحوثيون، وكذا ما يحدث في سوريا، وفي مصر، ويعنينا أن نغمس أصابعنا في كعكة كل بلد مجاور ولا سيما في كعكة العدو المحتل، كي نفهم. لا بد لنا من لغة قوية وزاخرة بالمفردات. لو كنا نعيش في صحراء منغوليا لما احتجنا إلى شطر ذلك. أليس كذلك؟ وإنما أكتب ذلك لأنني أرى الصحفيين في بلدنا يعانون من فقر الدم. حقاً قد استهواني إقبال الناس على دورة عقدناها في موضوع النحو والصرف. ولكن ما أريده أيضاً أن أرى الصحفيين يتمتعون بلغة جميلة وقوية يمكنها أن تعبر عن كل ما ذكرته من تعقيدات حياتنا.

قد مرت بي في هذه الدورة أسئلة صعبة: سألني أحدهم عن "حتى" فقصصت عليه قصة النحوي القديم الفرَّاء. فقد قيل إن الفراء قال على فراش الموت: "أموت وفي نفسي شيء من حتى". وسألني أحدهم عن "أي" فقصصت عليه قصة الكسائي. فقد قال الكسائي كلمته المشهورة: "أيٌّ هكذا خلقت". والمغزى أن بعض الأساليب عصية على التقعيد. ولم أقصَّ على زملائي المشاركين في تلك الدورة قصة ذلك الرجل الحلبي، وقد قرأتها في مجلة "الأسبوع العربي" في نحو عام 1966. وإنما أتذكر العام لأن ذلك العدد من تلك المجلة جاءنا قبل النكسة بقليل. ذلك الرجل الحلبي قضى ستاً وعشرين سنة من حياته وهو يدرس "ليس". 

كنت بالطبع أتهرب من كل تلك الأسئلة الصعبة. والسبب معروف: لا أعرف الإجابة. بالنسبة إلي فالنحو العربي أداة لا غير. وأنا أعرف منه بقدر ما أحتاج كي أكتب كتابة صحيحة.. وحرة. وهذا بالضبط ما أريد من زملائي الصحفيين أن يقتنعوا به. فمن شاء أن يتحذلق، فليتصل بي كي أعطيه كلمة يشغل بها سِنِي حياته.

أعود إلى موضوع نتائج ذلك الامتحان الخطير الذي عقدناه في ختام الدورة. بعد إذ صححت الأوراق جميعها، ولم يبق إلا عرضها على اللجنة، يمكنني القول إن كل المشاركين بلا استثناء قد اقتطفوا من أيام الدورة الثلاثة شيئاً. على أن التفاوت حتمي في مثل هذه الاختبارات المعيارية، قال المظفر: "وكلٌّ على قَدَر الزيت فيه يضاء".   

أشكر عماد الأصفر الذي كان لمشورته اليد الطولى في تركيبة الدورة واختيار مرشحيها، وخالد سليم الذي ساهم في اختيار المرشحين وكان المتحدث الضيف، وياسمين مسك مديرة الدورة والمشرفة العامة عليها، وحسام البرغوثي الذي نسق توزيع أوراق الدورة وضبطَنا جميعاً، وعلي بطحة الذي امتلأ الفيس بوك بصوره البديعة.  

ويرجى من عماد الأصفر – بصفته مشرف الدورات والتقييم في مركز تطوير الإعلام – أن يعتبر هذا المقال تقرير المدرب، وألَّا يطالبني بكتابة تقرير رسمي من تلك التقارير المملوءة بالجداول. 


Developed by MONGID DESIGNS all rights reserved for Array © 2024